كثيراً ما يُنظَر إلى مفهوم التبرع والصدقات من جهة، ومفهوم الأعمال والمبادرات الخيرية من جهة أخرى على أنهما يحملان ذات المعنى، من دون التفكير بعمق في الأبعاد والاعتبارات المختلفة الكامنة في كل منهما وتباين تأثيرها على المجتمعات. وهنا في الشرق الأوسط، تتأصل ثقافة فعل الخير والتبرع وتقديم الصدقات في ديننا وتقاليدنا، ولكن يغيب عن عطائنا هذا في الغالب عنصر التخطيط الاستراتيجي، وفي هذا العنصر بالتحديد عالم من التغيير والتأثير الذي تتوق إليه مجتمعاتنا وتحتاجه لتنمو وتزدهر.
يحتفل العالم في 15 نوفمبر من كل عام باليوم العالمي للأعمال الخيرية، وجدير بنا في هذه المناسبة أن ندرك أن في متناولنا فرصة هائلة للتطور وتحسين نتائج الجهود الخيرية في منطقتنا. في كل عام، تَهِبُ البلدان الإسلامية ما بين 250 مليار إلى تريليون دولار بين زكاةٍ وصدقة، وتُوزّع هذه الأموال على المجتمعات المحلية في هذه الدول وفي غيرها من بلدان العالم أيضاً، وعادة ما تُمنح هذه المبالغ بصورة مساعدات خيرية لا تعدو أن تلبي الاحتياجات الحالية على المدى القصير للمجتمعات المتلقية.
ولكن إن وظّفنا على الأقل جزءاً من مساعداتنا الخيرية هذه بطريقة أكثر فعالية تخدم مجتمعاتنا على المدى الطويل، سنضمن حينها استدامة منافع عطائنا وتكثيفها، وهذا بالضبط ما تحتاج إليه منطقتنا اليوم أكثر من أي وقت مضى. يختلف العمل الخيري الاستراتيجي عن المساعدات الخيرية بنمطها التقليدي، إذ إنه موجّه بصورة مدروسة وأكثر استراتيجية، وقادر على إحداث فرق ملموس في سياق الأهداف التنموية طويلة الأمد للمجتمعات.
ما يعنيه ذلك بعبارة أوضح، هو أن نضمن ألا يكون هناك نقص في الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب للأفراد والفئات الأشد عوزاً وفاقةً، بحيث يتسنى لهم صب تركيزهم على العمل والسعي بثقة وراحة بال إلى بناء مستقبل مستقر ومستدام لأنفسهم وعائلاتهم ومجتمعاتهم.
انتقال الثروات هو من أهم القضايا في الوقت الحالي، لا سيما مع توقع انتقال 68 ترليون دولار إلى الجيل القادم على مستوى العالم في السنوات العشر القادمة، ليكون بذلك أضخم انتقال للثروات عبر الأجيال على مر التاريخ.
ستشهد أسواق النمو، التي تضم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، انتقال نحو 26 ترليون دولار عبر الأجيال في العقدين القادمين، مع توقع تسجيل هذه الأسواق لثلاثة أرباع استهلاك الإنتاج المحلي الإجمالي العالمي. ومن غير المفاجئ أن نرى ارتفاعاً شديداً في رؤوس الأموال الخيرية في العقود القادمة، إذ يبين استبيان عالمي، أجرته مؤسسة فيلانثروبي ألاينس Philanthropy Alliance، أن 89 في المئة من المستجيبين يعتقدون بأن إفريقيا وآسيا، بما فيهما دول الشرق الأوسط، ستحظيان بأعلى مستويات النمو في مساعي العطاء والعمل الخيري على مدى الـ 25 سنة القادمة.
"تقع على عاتقنا جميعاً مسؤولية خدمة مجتمعاتنا، والارتقاء بجميع أفرادها نحو مستقبل أفضل وأكثر تكافؤاً".
إن ما يعيق الأعمال الخيرية في المنطقة ويحد من فعاليتها ليس صعوبة الحصول على رؤوس الأموال، المشكلة الحقيقية هي سوء توظيف هذه الأموال، والافتقار إلى التنظيم والاستراتيجية والتنسيق في توزيعها. ومع تزايد رؤوس الأموال الخيرية الضخمة في السنوات القادمة، ستشتد الحاجة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى بنية تحتية قوية وأنظمة مواتية راسخة لتوجيه هذه المبالغ وتوظيفها على الوجه الأنسب، وفي متناولنا فرص عظيمة للتعاون في إحداث هذا التغيير المنشود.
يُقاسي العديد من دول منطقتنا ضنك الفقر والبطالة، ولشريحة الشباب النصيب الأكبر من ذلك. وعلى الرغم من صعوبة العوامل المسببة لهذه التحديات، يجب علينا توظيف ما أوتينا من موارد للتصدي لها وتجاوزها، والمساهمة في الأعمال الخيرية التي تساعد على إيجاد الحلول لتحقيق النمو الاجتماعي والمالي المستدام لجميع الفئات والأفراد.
وهذه المنهجية هي وسيلة مهمة جداً لمعالجة مشكلة عدم التكافؤ المتفاقمة إقليمياً وعالمياً. ونحن، لحسن الحظ، نمتلك الأدوات والطاقات والموارد اللازمة لبناء البنية التحتية التي سيستند إليها الجيل القادم في مساعيه الخيرية ومسيرة عطائه. على سبيل المثال، تتيح الوسائل والأدوات التكنولوجية إمكانية تجميع البيانات ومعالجتها وفهمها كما لم يكن متاحاً من قبل، كمنصات الذكاء الاصطناعي والمنصات الرقمية التي تعيد تشكيل القطاع الخيري وتقدر على تحسينه ليكون أبلغ أثراً وأكثر استدامة.
نشهد حالياً تزايداً في المبادرات التي تركز على تحسين الأطر التنظيمية للأعمال الخيرية بتوظيف البيانات التي تعكس الواقع الفعلي للتحديات والمشكلات، وتبنّي نماذج حوكمة أقوى تُسهِّل تجميع الموارد بطريقة مدروسة وواضحة تضمن تحقيق آثار أطول أمداً.
ومن هذه المؤسسات مبادرة بيرل، وهي منظمة غير ربحية بقيادة القطاع الخاص تأسست في 2010 بهدف نشر ثقافة عمل تقوم على المساءلة والشفافية في مؤسسات القطاع الخاص في دول الخليج. وبالتعاون مع مؤسسة بيل وميليندا غيتس، أسست مبادرة بيرل برنامجاً مكرساً لتعزيز المنظومة الخيرية في الخليج، يعمل مع مانحين من شركات عائلية رائدة، ويوفر لهم منصة تفاعلية لتبادل الخبرات والمعارف تمكّنهم من تنفيذ مبادرات خيرية هادفة ومؤثرة.
وفي سبتمبر 2021، أنشأت جامعة نيويورك أبوظبي مبادرة العمل الخيري الاستراتيجي، وهي منصة أكاديمية مجتمعية تصبو إلى تشكيل منظومة أعمال خيرية تقوم على ممارسات أكثر استراتيجية وفعالية في الخليج والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتسعى مبادرة العمل الخيري الاستراتيجي إلى تحقيق ذلك من خلال ثلاثة مسارات رئيسية هي إجراء الأبحاث، والاجتماعات، والتدريب. وقد أفصحت المبادرة عن خطط لتأسيس أول مسرع أعمال خيرية في المنطقة لتنمية أعمال خيرية ناشئة مبتكرة، ومدّ مؤسسي هذه الأعمال بالأدوات والموارد التي يحتاجونها لتنمية أعمالهم وتحسين آثارها.
وسط هذه المبادرات المتعددة الهادفة إلى تهيئة بيئة مواتية للعمل الخيري، المثير للانتباه حقاً هو اهتمام الجيل الجديد والتزامه المتناهي بالعطاء الهادف والعمل الخيري الاستراتيجي، إذ يشير استبيان العطاء العربي إلى أن 76 في المئة من المانحين اليوم يطالبون المنظمات التي يمولون أعمالها بالشفافية في بيان تأثير أعمالها ومبادراتها والنتائج التي تحققها، بينما عبّر 71 في المئة منهم عن استعدادهم لتكثيف تبرعاتهم إن تحسنت شفافية المنظمات الخيرية التي يموّلونها؛ بخصوص كيفية توزيع الأموال والفئات المتلقية لها.
تقع على عاتقنا جميعاً مسؤولية خدمة مجتمعاتنا، والارتقاء بجميع أفرادها نحو مستقبل أفضل وأكثر تكافؤاً. ولتحقيق ذلك، علينا أن نعزز دور العمل الخيري في سياق منظومة رأس المال، وأن ننتهز كل فرصة ممكنة لتجاوز العوائق التي قد تحد من فعالية الأعمال الخيرية الاستراتيجية. ومن المهم جداً أن نتخذ إجراءات عملية تحسن أثر عطائنا الاستراتيجي وتضمن تحقيق أفضل النتائج منها، بما فيه خدمة ومنفعة لمنطقتنا وللعالم أجمع – اليوم وغداً وفي المستقبل.
نبذة عن الكاتب
بدر جعفر هو رجل أعمال إماراتي، ومؤسس مبادرة بيرل، المشاركة في إطلاق منصة سيركل، والراعي المؤسس لمركز العمل الخيري الاستراتيجي في جامعة كامبريدج ومبادرة الأعمال الخيرية الاستراتيجية لجامعة نيويورك أبو ظبي.
** هذه المقالة هي نسخة مختصرة من مقالة أطول كتبها بدر وتم نشرها لأول مرة هنا من قبل مؤسسة فكر، وهو مركز للدراسات الاستراتيجية يقع مقره في دولة الإمارات العربية المتحدة. انقر هنا للحصول على النسخة الكاملة باللغة العربية على شكل ملف PDF.