لماذا لا يشبه العطاء الاستثمار

Shutterstock 1636123741 2


قبل نحو عقدين من الزمن، وأثناء حضوري لمساق اختياري لطلاب السنة الثانية عندما كنت طالب ماجستير في إدارة الأعمال في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد، استمعت لمُحاضِرة زائرة وهي تشرح كيف تطبّق المنظمة المتخصصة في "العمل الخيري الاستثماري" التي كانت تعمل بها "مبادئ رأس المال الاستثماري" على عملها.

استخفّت الضيفة آنذاك كثيراً بما وصفته بـ "العمل الخيري التقليدي"، الذي، كما قالت، لم يحقق أي نتائج فعالة. كما وصفت قادة المنظمات غير الربحية بأنهم غير أكفاء وبحاجة إلى "مستثمرين" حازمين لمساءلتهم عن أدائهم.

كان الطلاب، الذين لم يكن مُعظمهم يعرف الكثير عن العمل الخيري أو المنظمات غير الربحية، يهزون رؤوسهم تأييداً لما تقوله المُحاضرة الزائرة باستثناء قلة منا الذين كنا نتمتع بالخبرة في مجال العمل الخيري والمنظمات غير الربحية. لقد كنا نعلم أنها لا تدرك الفكرة.

فقد حقق العمل الخيري الكثير الإنجازات في هذا البلد. و كان أمراً حاسماً لتحقيق الكثير من التقدم الذي نعتبره اليوم من المُسلّمات في حياتنا. كما أن قادة المنظمات غير الربحية هؤلاء هم غالباً أبطالٌ أمريكيون مجهولون، يقومون بالموازنة بين طائفة من المسؤوليات، وهي جهود تجعل وظيفة الرئيس التنفيذي لشركة ما تبدو وكأنها نزهة في حديقة.

لكن الضيفة التي تحدثت في ذلك اليوم كانت عازمة على الترويج لفكرة أن كل ما تم القيام به من قبل لم يكن فعّالاً وأنها تملك التركيبة الجديدة للنجاح.

غير أن الحقيقة هي أنه لا وجود لمثل هذه التركيبة - أي لا يوجد قياس "جاهز للاستخدام" يمكن تبنيه من قبل المنخرطين في عالم العطاء. بل في واقع الأمر هناك العديد من الخيارات والأساليب المتاحة أمامك لكي تصبح مانحاً فعالاً، على الرغم من أن أياً منها ليس بهذه السهولة.

وعلى الرغم من وجود الكثير من الأعمال الخيرية غير الفعّالة، إلا أن هناك أيضاً أمثلة مُلهمة من حولنا على عطاء تم القيام به على نحو صحيح. وعند القيام بالعطاء بشكل صحيح فإنه يمكن، بل من المؤكد، أن يترك تأثيراً إيجابياً هائلاً.

مع ذلك، يواصل الكثيرون الإصرار على أن الحل يكمن في تشبيه العطاء بالاستتثمار، وهي فكرة غير مناسبة وتشوش الذهن. فماذا يعني أن تدير عطاءك كما تدير "رأس المال الاستثماري"؟

كتب أستاذي مقالاً مؤثراً في مجلة "هارفارد بزنس ريفيو" قال فيه هو وزملاؤه المؤلفون أن ذلك يعني اتخاذ خطوات مثل التركيز على مقاييس الأداء، وإقامة علاقات وثيقة مع المنظمات غير الربحية (بما في ذلك شغل مقاعد في مجالس إدارتها) فضلاً عن بناء قدراتها وتقديم هبات كبيرة الحجم وطويلة المدى ووضع استراتيجية للخروج. قام العديد من زملائي في كلية إدارة الأعمال بتبنيها دون تردد. "نعم، دعونا جميعاً نتصرف كأصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية!"

لكن لم تكن الأفكار المطروحة في مقال "هارفارد بزنس ريفيو" جديدة على العمل الخيري، ولم تكن خاصة برأس المال الاستثماري. كما أنه ليس بقياس جيد.

لا يمتلك المانحون مؤسسات غير ربحية، ولا ينبغي أن تكون استراتيجية الخروج لمنظمة عالية الأداء بالضرورة هي الهدف المنشود. بل يجب على المانحين مواصلة دعم تلك المنظمات التي تحقق نتائج إيجابية نظير الأهداف المشتركة على المدى الطويل.

كما أن أصحاب رؤوس الأموال الذين أعرفهم يهتمون بشيء واحد وهو قدرتهم على تحقيق عوائد مالية ضخمة. فلماذا يكون هذا الدافع قياساً جيداً لأولئك الذين يهتمون بإحداث فرق في العالم؟

وأخيراً، وبينما يتم تحديد نجاح شركة ما من خلال الربح والنمو الذي تحققه مقارنه بمنافسيها، لا تقوم المنظمات غير الربحية عادةً بحل أي مشكلة بمفردها؛ فهي جزء من منظومة معقدة من المنظمات التي تتصدى لقضايا مترابطة.

يتعلق العالم الربحي بالديناميات التنافسية – كالسؤال عن حصة شركة ’ليفت‘ Lyft من السوق مقارنة بشركة ’أوبر‘ Uber. أما عالم العطاء والمنظمات غير الربحية فيدور حول الديناميات التعاونية – أي كيف يعمل مأوى المشردين مقارنة بمركز للعلاج من تعاطي المخدرات للوصول إلى هدف مشترك وهو تحقيق نتائج أفضل للمشردين الذين يعانون من الإدمان؟

وربما نتيجة لهذا الاعتراف، بات العديد من الأشخاص الذين روجوا لفكرة أنه يجب علينا التركيز على نمو المؤسسة الخيرية كما يفعل أصحاب رؤوس الأموال - بما في ذلك الضيفة التي تحدثت في فصلي في كلية إدارة الأعمال - يتبنون الآن فكرة "تغير الأنظمة".

يعتمد مفهوم تغير الأنظمة على الاعتراف بأن التحديات التي تتصدى لها الأعمال الخيرية معقدة ومترابطة.

وهذا ما يقوله الأشخاص ذوو الخبرات في القطاع غير الربحي منذ عقود. فالمانحون الذين يتمتعون بتفكير رصين ينفتحون على معرفة مدى التحدي الفريد الذي يمثله العطاء.

خذ على سبيل المثال ماريو مورينو، رائد الأعمال في قطاع التكنولوجيا والمستثمر الذي تحوّل إلى مانح والمؤسس المشارك لمؤسسة ’فينتشر فيلانثروبي بارتنيرز‘ Venture Philanthropy Partners في عام 2000. في ذلك الوقت رأى مورينو أن نموذج رأس المال الاستثماري القائم على نهج ’جنرال أتلانتيك‘، والذي لعب دوراً بالغ الأهمية في تحفيز شركته على النمو عندما كان رائد أعمال، يعتبر قياساً جيداً بالنسبة للعطاء والأعمال الخيرية.

قامت ’فينتشر فيلانثروبي بارتنيرز‘ بالكثير من العمل الرائع لمساعدة الشباب المعرضين للخطر في منطقة واشنطن العاصمة. لكن مورينو يقر الآن بأن العمل الخيري كان أصعب من الاستثمار وأن هذا القياس لم يكن ناجحاً.

وبينما يرى مورينو أن هذا النهج كان ذا قيمة في مساعدة المنظمات غير الربحية على غرس انضباط أفضل في أساليب عملها والتفكير على المدى الطويل، كان لا بد من تكييف النموذج من أجل أخذ الاختلافات في العالم غير الربحي والتعقيدات المتأصلة فيه في الاعتبار. وعن ذلك قال: "عليك قضاء الوقت مع المنظمة. عليك أن تشهد [على عملياتها بنفسك]. وعليك قضاء بعض الوقت مع العملاء النهائيين".

كما أن وارن بافت يعرف القليل عن الاستثمار. وبعد تعهده بنحو 30 مليار دولار من أسهم شركة ’بيركشير هاثاواي‘ Berkshire Hathaway لمؤسسة بيل وميليندا غيتس في عام 2006، أوضح الخبير في الاستثمار أنه فعل ذلك لأن ما يتقنه الأعمال وليس العطاء. وأوضح أن الهدف في عالم الأعمال هو البحث عن طرق سهلة لكسب المال، غير أن "أهم المشاكل في مجال العمل الخيري هي تلك التي استعصت بالفعل على الفكر والمال".

وكان أندرو كارنيغي قد أوضح ذلك في عبارته الشهيرة عندما أفاد أنه قد وصل إلى نقطة في حياته "سيتوقف فيها عن التكديس والبدء بالتوزيع، وهي مهمة أكثر خطورة وصعوبة إلى حد بعيد".

وإذا كنت لا تصدقني، فخذ بآراء أولئك الذين انغمسوا بعمق في كلا العالمين: فمن الواضح أن العطاء الفّعال يعتبر صعباً للغاية - أكثر بكثير من الاستثمار.

"The challenges philanthropy addresses are complicated and interdependent."

Shutterstock 155562992 2

A

فيل بيوكانون هو رئيس مركز العمل الخيري الفعّال Center for Effective Philanthropy، وهذا المقال مقتطف ومترجم من كتابه Giving Done Right: Effective Philanthropy and Making Every Dollar  وتم اقتباسه بإذن منه. حقوق النشر© 2019. تم النشر بواسطةPublicAffairs ، طبعة Hachette Book Group.