العطاء القائم على الأدلة
كارولين فانيس من منظمة ’غيفينغ إيفيدنس‘ تشرح لماذا علينا تحديد المشكلة بالضبط قبل الشروع بكتابة الشيكات والتبرع بالأموال
الثلاثاء, 18 أكتوبر 2022
كارولين فانيس من منظمة ’غيفينغ إيفيدنس‘ تشرح لماذا علينا تحديد المشكلة بالضبط قبل الشروع بكتابة الشيكات والتبرع بالأموال
الثلاثاء, 18 أكتوبر 2022
كارولين فاينس هي مؤسسة ومديرة منظمة ’غيفينغ إيفيدنس‘ Giving Evidence التي تشجع على العطاء القائم على الأدلة الراسخة من خلال توفير الخدمات الاستشارية والأبحاث. كما أن كارولين زميلة زائرة في جامعة كامبريدج ومؤلفة كتاب It ain’t what you give, it’s the way that you give it (لا يتعلق الأمر بما تقدمه بل الطريقة التي تقدمه بها) وهي أيضاً من المساهمين المنتظمين في وسائل الإعلام الدولية حيث تكتب العديد من المقالات حول العمل الخيري والعطاء.
لنبدأ من نيبال. فنيبال كما تعلمون بلاد جبلية للغاية ولديها العديد من الاحتياجات الإنمائية التي تحصل على الدعم من المساعدات الدولية والتمويل الخيري. وقد وجدت إحدى الدراسات أن الجزء الأكبر من أموال المساعدات التي يتم إرسالها إلى نيبال يذهب إلى الناس والمشاريع في الوديان. والسبب في ذلك أن الوديان تضم عدداً أكبر من الطرقات، ما يجعل التكاليف الإدارية للوصول إليها أقل مقارنةً بالمنحدرات الأعلى التي يعتبر الوصول إليها أكثر صعوبة. ولأن الوصول إلى الوديان يتميز بدرجة أعلى من السهولة، فإن الأراضي هناك أغلى ثمناً. إذاً خمن أين يعيش أفقر الناس؟ نعم، إنهم يقطنون التلال، حيث الأراضي أرخص ثمناً، وعلى وجه الدقة لأنه يصعُب الوصول إلى هناك. إذاً، الأموال تذهب تقريباً إلى المناطق التي لا يتواجد فيها أفقر الناس.
أما في الهند، حيث مستويات التعليم في المدارس الحكومية في العادة سيئة، يموّل المانحون في أغلب الأحيان المزيد من المدخلات: المزيد من المعلمين، والمزيد من المناضد المدرسية والمزيد من الكتب. لكن ما تأثير تلك المدخلات على مستويات التعليم؟ الجواب هو أنه في الكثير من الأحيان لا يكون تأثيرها مهماً.
يبدو هذا الكلام منافياً للمنطق العام، لكن السبب هو أن نظام التعليم الهندي غير فعّال كما نتوقع. على سبيل المثال، يتقاضى المعلمون في الهند أجوراً ضئيلة، لذا فإن نسبة التغيب عن العمل مرتفعة. وإذا لم يكن هناك مدرسٌ في الصف فلا يهم كم عدد المناضد المتوفرة للتلاميذ. كما تُظهر الدراسات أن المعلمين غالباً ما يقومون بالتركيز على أكثر طالبين أو ثلاثة طلاب تفوقاً في الفصل، في حين يتم إهمال الطلاب الآخرين بشكل أو بآخر، فيما يبدو بأنه إرث من الاستعمار البريطاني الذي سعى إلى إنتاج عدد قليل من البيروقراطيين لآلة الإدارة.
هذا هو النظام في الهند. لكن الأمر مختلف في أماكن أخرى في العالم. ففي فيتنام، على سبيل المثال، يركّز المعلمون على تدريس كل طفل، وبالتالي فإن الفجوة بين الطلاب الأعلى والأدنى مستوىً في الفصل أصغر، وربما يكون ذلك تركة النظام الشيوعي؟ أذكر هذه الفكرة هنا لأن الناس غالباً ما يعتقدون أن ما يحدث في مكان من الأماكن المحدودة الموارد ينطبق عليهم جميعاً، غير أن ذلك غير صحيح.
إذاً ببساطة نستنتج أن مجرد تقديم المزيد من المدخلات في الهند يترك تأثيراً ضئيلاً على التعلم.
يؤكد هذان المثالان على مدى أهمية فهم المشكلة التي نسعى لحلها فضلاً عن المكان الذي يعاني من هذه المشكلة - ويذكرنا بأنه لمجرد أن البرنامج يبدو فكرة جيدة لا يعني أنه كذلك من الناحية العملية، بل في الحقيقة قد يؤدي إلى تفاقم المشكلة.
دعونا نلقي نظرة على برنامج يهدف إلى تقليل حالات حمل بين المراهقات. قام البرنامج بإعطاء المراهقات ’المعرضات للخطر‘ دمية إلكترونية للعناية بها من أجل تعريفهن بالتحديات المرتبطة بالأمومة ورعاية الأطفال.
لقد كان التأثير الذي أحدثه البرنامج مثيراً للدهشة. فقد قام باحثون أستراليون بتتبع فتيات تراوحت أعمارهن بين 13 و15 عاماً في 57 مدرسة، بعضهن حصل على هذه الدمى وبعضهن الآخر لم يحصل عليها. ثم قام الباحثون بمتابعة الفتيات حتى بلوغهن سن العشرين وربطوا البيانات المدرسية بسجلات المستشفيات وعيادات الإجهاض.
وأشارت دراسة تم نشرها في مجلة ’ذا لانست‘ أن الفتيات اللاتي حصلن على الدمى كن أكثر عرضة للحمل بنسبة 36 بالمئة مقارنة بالفتيات في المجموعة المرجعية: أي أن البرنامج فعل نقيض ما كان مقصوداً منه تماماً.
باختصار، يجب على المانحين القيام بواجبهم بدراسة الموضوع على أكمل وجه، ليس فقط لتجنب تفويت الفرص لمساعدة أكبر عدد ممكن من الناس، بل كذلك لتجنب التسبب في مشاكل جديدة وتفاقم المشاكل الموجودة أصلاً.
"اجعل عطاءك يرتكز على الأدلة الجيدة ... وابتعد عن التخمين والتمني".
تعمل منظمتي ’غيفينغ إيفيدنس‘ Giving Evidence، مع المانحين لمساعدتهم على العطاء على نحو فعّال. ويتضمن ذلك إيجاد الأدلة وفهمها وتطبيقها من أجل إرشادهم إلى المجالات والأماكن التي يجب أن يقدموا إليها عطاءهم، فضلاً عن نوع العطاء وكيفية تقديمه.
وعلى الرغم من أن ’العطاء القائم على الأدلة‘ قد يبدو معقداً للغاية، إلا أنه ليس كذلك في جميع الأوقات. اسمحوا لي أن أقدم لكم مثالاً على ذلك. قبل بضع سنوات، عملنا مع عدد من السيدات الهولنديات اللاتي ينتمين إلى مؤسسات خيرية عائلية. كانت السيدات مهتمات بتحسين مستويات التعليم بين الفتيات في العديد من الدول، لاسيما الفلبين وإندونيسيا. لقد كن يتوقعن أن عدد الفتيات خارج مقاعد الدراسة هناك أعلى من عدد الفتيان، وأن أداء الفتيات سيكون متدنياً عن الفتيان في المدارس، ولذلك فكرن في تمويل برامج التقوية للفتيات.
غير أننا عندما قمنا بتفحص الأمر جيداً وجدنا أنه لا يوجد فرق بين أداء الفتيات والفتيان في المدارس في إندونيسيا، أما في الفلبين، فكان عدد الفتيات الملتحقات في المدراس أعلى من عدد الفتيان. تبين لنا أن التحاق الفتيات بالمدارس لم يكن مشكلة في هذين البلدين. مع ذلك، كانت مستويات التعليم في إندونيسيا بين الفتيات والفتيان أقل بكثير من متوسط مستويات التعليم في بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي. إذا مشكلة التعليم في إندونيسيا هي التعليم نفسه وليس النوع الاجتماعي.
لم يستغرق جمع الأدلة والبراهين صبيحة يوم واحد إلا أنه حال دون إهدار أموال تلك المؤسسات الخيرية. قمنا بعدها بتوجيه السيدات إلى حيث ستكون أموالهن ذات فائدة أعظم.
يُطلق على أحد أفضل أنواع الأبحاث التي يمكن استخدامها بالاستعراض المنهجي، فهو يقدم نظرة ساتلية ويجمع جميع الأدلة المتوفرة ذات الصلة بموضوع معين. وليس من الجيد أن تحصر نفسك بدراسة واحدة فقط، فالدراسات المختلفة للقضية ذاتها والتي تجرى في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة قد تتوصل إلى إجابات مختلفة. لذلك من الأهمية بمكان اعتماد رؤية شاملة. وهنا مثال على خريطة الأدلة والبراهين المرئية وهنا مثال على الاستعراض المنهجي.
من المهم أيضاً التأكد من أنك تعرف الجهة التي قامت بإجراء البحث والغاية من إجرائه. لسوء الحظ، من الشائع جداً أن تقوم الجمعيات الخيرية التنفيذية (مثل الجهات المتلقية للمنح) بتقييم فعالية برامجها. من هنا غالباً ما تكون مثل هذه التقارير غير موثوقة. وهناك أسباب عديدة لذلك.
السبب الأول هو أن معظم المنظمات غير الربحية التنفيذية ليست ماهرة في إجراء البحوث المتخصصة في العلوم الاجتماعية: فهي لا تمتلك عادة المهارات اللازمة لتحديد تأثيرات برامجها على نحو موثوق. ولماذا نتوقع منها أن تتقن ذلك؟ فإدارة ملجأ للعنف المنزلي بشكل جيد على سبيل المثال مهارة مختلفة تماماً عن إجراء البحوث. أما السبب الثاني فهو أن معظم المؤسسات الخيرية التنفيذية تقدم خدماتها لعدد قليل جداً من الأشخاص، لذا لا يمكننا الاعتماد على دراساتها فقط. ويعني ذلك بمصطلحات البحث العلمي أن أحجام العينات في البحوث التي تجريها غير كافية لإعطاء نتائج ذات دلالة إحصائية. [اقرأ المزيد عن هذا الموضوع هنا].
وهناك أيضاً مشكلة الحوافز، في حال طُلب من المؤسسات الخيرية إجراء تقييمات سيتم الحكم عليها على أساسها. لا شك أن عدداً قليلاً من المؤسسات ستعترف بأنها حققت تأثيراً بسيطاً - أو ربما لم تحقق أي تأثير على الإطلاق – بالأموال التي حصلت عليها من جهة أخرى. بالتأكيد، عندما كنت الرئيسة التنفيذية لمؤسسة خيرية، كنت أذهب إلى اجتماعات الممولين ومعي الرسوم البيانية التي تظهر نتائج مرتفعة، أما تلك التي تظهر انخفاضاً لم أكن أعرضها على أحد.
وفي عام 2012، تفحصت مؤسسة بول هاملين الخيرية Paul Hamlyn Foundation، ومقرها المملكة المتحدة، جودة التقييمات التي حصلت عليها من الجهات المتلقية لتمويلها على مدار خمس سنوات. وقد توصلت الدراسة التي قامت بها إلى أن الكثير من البحوث لم تكن ذات مستوً جيد بل كان الكثير منها سيئاً للغاية - على الرغم من أن المؤسسة كانت متساهلة بمعاييرها في هذا الشأن.
يقدم تحالف الفنون Arts Alliance، وهو تحالف من المنظمات الفنية العاملة مع نظام العدالة الجنائية في المملكة المتحدة، مثالاً آخر على ذلك. لدى التحالف ’مكتبة للأدلة والبراهين‘ تشمل تقييمات للتدخلات القائمة على الفنون، وفي عام 2013، كانت المكتبة تضم 86 تقييماً. غير أن إحدى الدراسات توصلت إلى أن أربعة فقط من هذه التقييمات يفي بمعايير الجودة من أجل إدراجها في ’تقييم سريع للأدلة‘ تابع للحكومة.
وفيما يتعلق بتلك النقطة، سألت منظمة ’نيو فيلانثروبي كابيتال‘ New Philanthropy Capital، وهي مؤسسة فكرية واستشارية للقطاع الاجتماعي يقع مقرها في المملكة المتحدة، المؤسسات الخيرية البريطانية عن سبب إجرائها للبحوث التي تقيس الأثر، فأجاب معظمها أن السبب هو أن الممولين أو مجلس إدارتها قد طلبوا منها ذلك، أو لأنها حصلت على تمويل خاص لتنفيذ هذه المهمة.
ولم يذكر سوى سبعة في المئة منها أن الهدف هو تحسين عملها، وهو ما يوضّح وجهة نظري. بالقياس، عندما ألعب التنس، لا أسعى لمعرفة ما إذا كانت ضربتي ستكون داخل الخط لأبلغ شخصاً آخر بذلك، بل أريد أن أعرف ذلك بنفسي حتى أتمكن من رفع مستوى أدائي.
فبدون بحوث محايدة يقوم بها باحثون مهرة لتوجيه القرارات التي يتم اتخاذها بشأن المنح، فإنك تخاطر بمكافأة المبادرات التي تحركها المصالح، والأسوأ من ذلك، أنك تقدم الدعم للمطالب المبالغ فيها والتي لا تتسم بالنزاهة، وهو ما سيؤدي بك إلى إهدار أموالك وإحباط الأشخاص الذين تسعى لمساعدتهم.
إذاً، ماذا يحدث عندما لا تتوفر البحوث لإرشادك إلى القضايا والفئات السكانية التي ترغب بدعمها؟ أحد الخيارات هو مجرد التخمين والتمني: إنها لعبة الروليت في مجال العمل الخيري ومن غير المرجح أن تفضي إلى نتائج جيدة.
الخيار الآخر الوحيد هو توظيف أعمالك الخيري في إنتاج الأدلة: أي تمويل إنتاج هذه البحوث / البيانات / الأدلة / وهو ما نسميه بـ ’العطاء الساعي لتوفير الأدلة‘.
على سبيل المثال، إذا كنت ترغب في دعم برنامج مبتكر، يمكنك تمويل جهود إجراء بحث دقيق لتحديد الأثر الذي سيحدثه ذلك البرنامج. لكن بدلاً من مطالبة المنظمة غير الربحية بتقييمه، من الأفضل أن تقدم التمويل لجهة تقييم مستقلة وتتمتع بالماهرات المناسبة. فمن شأن ذلك أن يجنب المشاكل المتعلقة بالحوافز والفجوات في المهارات.
وللتغلب على مشكلة الأحجام الصغيرة لعينات البحث، يمكن للباحثين النظر في هذه البرامج لدى العديد من المنظمات المنفذة لها. ومن الأمثلة على ذلك عندما أرادت ’مؤسسة الوقف التربوي‘ Education Endowment إجراء تقييم لتحديد التأثيرات التي تحققها ’نوادي الإفطار‘ في مرحلة ما قبل المدرسة استعانت بمعهد الدراسات المالية في المملكة المتحدة لإجراء دراسة استقصائية شملت أكثر من 100 مدرسة. يمكن الاطلاع على النتائج هنا.
يمكنك البدء بإيجاد منصة الأدلة والفجوات Evidence and Gap Map (EGM) واستخدامها: فهي تبين لك أين تتوفر بحوث ذات صلة بالقضية التي تهمك - والتي يمكنك استخدامها - وأين لا تزال هناك حاجة لإجراء مثل هذه البحوث.
دبي العطاء، المؤسسة التعليمية التي أنشأها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، تقسم ميزانيتها إلى جزء للعطاء القائم على الأدلة والبراهين ودعم الأعمال الخيرية المعروفة بفعاليتها، وجزء للعطاء الساعي لتوفير الأدلة الذي يوجَّه للبحوث والمشاريع التجريبية والدراسات المتعلقة بالسياسات التي تدعم تطوير البرامج المستقبلية بنفسها أو من قبل الآخرين.
مثال آخر على توفير الأدلة هو ما قامت به منظمة براتام Pratham، إحدى أكبر المنظمات غير الحكومية في الهند، والتي تركز أيضاً على التعليم. ففي منتصف العقد الأول من الألفية، أدركت منظمة براتام أنها لا تعرف بالضبط أين تشتد الحاجة إلى عملها، أو المناطق التي يتراجع فيها مستوى الأطفال كثيراً، وبالتالي لم تكن على يقين أين يتوجب عليها تركيز أولوياتها. لذلك بدأت بإجراء دراسة استقصائية على مستوى البلاد لتقييم مستويات التعليم لدى الأطفال. ينتقل القائمون على تقرير حالة التعليم السنوي (ASER) من منزل إلى منزل (لضمان إدراج الأطفال خارج المدرسة) في كل منطقة في الدولة ومن ثم يتم نشر نتائج كل ولاية على حدة. وجهت هذه البيانات برامج براتام وحفزت كذلك اتخاذ إجراءات من قبل حكومات الولايات لأنها لا تريد أن يُنظر إليها على أنها ولايات ينخفض فيها أداء الطلاب.
تعني كلمة Aser باللغتين الهندية والأردو "الأثر" - وهذا ما فعله بالضبط تقرير حالة التعليم السنوي ASER - ليس في الهند فقط، إذ اعتمدت العديد من الدول الأخرى منذ ذلك الحين نهج ASER لتقييم احتياجات التعليم ونتائجه.
باختصار: اجعل عطاءك يرتكز على الأدلة الجيدة. وإذا لم يكن ذلك متاحاً لقطاع أو منطقة جغرافية معينة، قم بتمويل إنتاج تلك الأدلة. يجب عليك الابتعاد عن التخمين والتمني.
It's a good idea to use a strong password that you're not using elsewhere.
Remember password? Login here
Our content is free but you need to subscribe to unlock full access to our site.
Already subscribed? Login here